الأسبوع المقدس

الأسبوع المقدس بحسب التقويم الإنجيلي المُصلح

أبريل 29, 2024 - 11:04
أبريل 29, 2024 - 11:31
 0  43

2024-04-29

الأسبوع المقدَّس

يُعطي التَّقويم الليتورجي أهميَّة كُبرى لذلك الأسبوع المُسمَّى "أسبوع الآلام"، على اعتبار أنَّ المسيح تألَّم كثيرًا في الأسبوع الأخير من زمن تجسُّده. والحقيقة أنَّ آلام المسيح لم تكُن في ذلك الأسبوع فقط، بل أسبوعُ آلامِه بدأ منذ ميلادِه. ونستطيع أن نقول، بمَوضوعيَّة، إنَّ ذلك الأسبوع هو أسبوع دخول الحُبّ الإلهيّ في ذُروة التَّعبير عنه. صحيحٌ أنَّ المسيح تألَّم كثيرًا فيه، بحسب الجسد، لكنَّه تهلَّل بالرُّوح: "أنْ أفعل مشيئتَكَ يا إلهي سُرِرتُ"، والموت صلبًا هو صُلْب مشيئة الآب المَحتومة. إذًا، فهو بالنِّسبة للمسيح أسبوع السُّرور بإتمام مشيئة الآب، ودخول مشروع الخلاص في مرحلته التَّنفيذيَّة. أمَّا بالنِّسبة لنا فهو أيضًا أسبوع الفرح بخبَر الإنجيل، بأنَّ المسيح تألَّم وصُلِب ومات، لكي يُسدِّد ثمن خطايانا نيابةً عنَّا، إقرارًا للعدالة الإلهيَّة والمحبَّة الإلهيَّة. لذلك، يجب ألَّا نُبالغ في مظاهِر أحزاننا عندما نتذكَّر آلام المسيح، لأنَّه تألَّم لكي نفرح بالخلاص. أمَّا إذا أردنا أن نحزن ونتألَّم، فلنَحزن بسبب خطايانا، فنأتي إليه، ونتألَّم على خطايا الآخرين، فنَكرِز لهم ببشارة الفرح والخلاص.

أمَّا ذلك الأسبوع فهو مليءٌ بالذِّكريات العجيبة والمعاني الرُّوحيَّة العميقة، فهي أهمُّ مراحل الخلاص، أهمُّ فصلٍ في قصَّة الحُبِّ العجيب. لذلك، فإنَّ المشاعر الرُّوحيَّة في ذلك الأسبوع يكون لها عُمقٌ روحيٌّ خاصٌّ. فإنَّنا عندما نتذكَّر آلام المسيح لأجلنا، تنسحِق قلوبنا ونتوب بصِدقٍ، ونرتقي فوق مستوى المادَّة، وندخل في أجواءٍ أرقى. كما أنَّ الشُّعراء والمؤلِّفين والملحِّنين، يُبدِعون بكثيرٍ من أعمالهم الفنيَّة من وحي أحداث ذلك الأسبوع. لذلك، اختارت المسيحيَّة الصَّليب رمزًا لها، لأنَّ له التَّأثير الأكبر في النُّفوس، أكثر مِن أيِّ حدثٍ آخَر في حياة المسيح. فمَن لا يعرف كيف يجد فوائد روحيَّة عميقة في ذلك الأسبوع، يصعُب عليه أن يجدها في بقيَّة أيَّام السَّنة.

يتألَّم مُنذ ولادته

المسيح يتألَّم منذ فكَّر هيرودس في قتله، إذْ قتل جميع أطفال بيت لحم لعلَّ الطِّفل يسوع، ابن السَّنتين تقريبًا، يكون منهم. وخدمته العلنيَّة كانت دائمًا محفوفة بالمخاطِر، بسبب مؤامرات اليهود وقادَتهم ضدَّه. فكم مرَّة حاولوا قتله، لكنَّهم لم يستطيعوا، لأنَّ ساعته لم تكُن قد جاءت؟ ألَم يتنبّأ عنه إشعياء بأنَّه رجلُ الأوجاع ومُختَبِر الحَزَن (إشعياء 53: 3)؟ وُلِد في مذودٍ للحيوان، وهرَب إلى مصر بسبب اضطهاد هيرودس الطَّاغية، وعاش فقيرًا، وجَرَّب الجوع والعطش، واختبر الرَّفض وسوء الفهم مِن أهل وطنه ومن أهله، وكثيرًا ما انتقَدَه رجال الدِّين اليهودي انتقاداتٍ لاذِعة. فأسبوع آلامه بدأ منذ ولادته، وما هذا الأسبوع إلَّا ذروتها لإتمام مقاصده.

المُسوح والرَّماد والصَّوم

مع نهاية الأسبوع المقدَّس، بحسب التَّقويم الليتورجي، ينتهي فصل من فصول الرُّوزنامة الكنسيَّة "فصل الصَّوم" الذي يصِل إلى مُناسبة عيد القيامة المجيدة. مدَّة ذلك الفصل ستَّة أسابيع تُشدِّد في أثنائها الكنيسة على قيمة الصَّوم، من حيث المعنى الكتابي والتَّطبيق الرُّوحي. وبحسب ذلك التَّقويم، فإنَّ فصل الصَّوم يبدأ بما يُسمَّى بيوم "أربعاء الرَّماد" الذي يستمرُّ مدَّة خمسين يومًا. وتختلف تقاليد الصَّوم بحسب الطَّوائف المسيحيَّة والليتورجيَّات، لكن الجميع يتَّفقون على أهميَّة وقيمة الصَّوم كأحد القيم الرُّوحيَّة في تعاليم المسيح.

أمَّا الحديث عن "الصَّوم" فإنَّه عادةً ما يستَحضِر إلى أذهاننا كلِّ ما يتعلَّق بالمَعِدة من أكلٍّ وشُرب. بينما الهدف الأساس من تحديد فصلٍ لتذكُّر الصَّوم في الرُّوزنامة الكنسيَّة، ليس تحديد ما نأكُله ومتى نأكُله، لأنَّ ذلك يتعارض مع تعليم المسيح "متى صُمتُم.."، أيْ في أيِّ وقتٍ من دون تحديد زمنٍ له. بل التَّشديد على ما يجب أن نتحلَّى به من فضائل روحيَّة، وما يجب أن نتخلَّى عنه من عادات وأشياء مَحبوبة، والتَّدريب على ذلك. هذا هو المعنى الحقيقي للصَّوم، ثلاثُ تاءات: "تَخلِّي عن، تَحلِّي بــ ، توبة عن". فهو إذًا فصل التَّوبة والتَّخلِّي والتَّحلِّي. أمَّا الصَّوم عن الطَّعام فهو مُجرَّد تعبيرٌ رمزيّ عن ذلك. صحيحٌ أنَّه، لا الصَّوم له فَصلٌ مُحدَّد، ولا التَّوبة لها أوقات مُحدَّدة، لكنَّنا في ذلك الوقت نتذكُّر أحد أهمّ القيَم المسيحيَّة.

أربعاء الرَّماد

أمَّا أربعاء الرَّماد فهو مُؤسَّس في الأصل على تقاليد مسيحيَّة غربيَّة. ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة الكفَّارة في العهد القديم. حيث كانوا يُغطُّون رؤوسهم بالرَّماد ويلبَسون المسوح، وهي نوعٌ من الأقمشة الخَشِنة غير المُريحة، تُصنَع عادةً من شَعر الماعز الأسود، وهي مثل (الخيش). فنقرأ عن المسيح: "حينئذٍ ابتدأ يوبِّخ المدن التي صُنِعَت فيها أكثر قوَّاته، لأنَّها لم تَتُب: ويلٌ لكِ يا كورزين. ويلٌ لكِ يا بيت صيدا. لأنَّه لو صُنِعَت في صور وصيداء القوَّات المصنوعة فيكُما، لتابتا في المُسوح والرَّماد" (متّى 1: 20-21). فالمسوح والرَّماد إشارةٌ إلى التَّوبة، لذلك، اختارت الكنيسة، في القرن الخامس تقريبًا، أن تكون "المسوح والرَّماد" إشارة إلى ندم أولئك الذين عليهم أن يُكفِّروا عن ذنوبهم. فكان التَّائبون يذهبون إلى الكنيسة ويعترفون بخطاياهم، وهم يرتدون المِسح مطبوعًا عليه بالرَّماد، ويُسْتَبْعَدون من الكنيسة حتَّى يتوبوا. وهكذا يبدأ فصل الصَّوم (الموسم التَّكفيري) بالاعتراف والنَّدم.

بعد ذلك دخل تقليدٌ آخَر يتعلَّق بالرَّماد، حيث كانوا يضعونه على رؤوس التَّائبين، كرمز مُهمٍّ للتَّوبة. كانوا يأخذونه من إحراق أغصان الزَّيتون التي استُخدِمت في أحد الشَّعانين في العام السَّابق. فيضعون ذلك الرَّماد على رؤوس الرِّجال من التَّائبين، أمَّا النِّساء فيوضَع على جباهِهِنَّ في شكل صليب. وأثناء ذلك يردِّدون القول: "اذكُر يا إنسان أنَّك من تُرابٍ وإلى التُّرابِ تعود" (تكوين 3: 19)، أو "توبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس 1: 15). ويُستَخدَم الرَّماد رمزيًّا هنا لأنَّه يُذكِّر الإنسان بالموت، ويُبيِّن أنَّ كلَّ ما في هذه الحياة إلى زوالٍ. وهو أيضًا رمزُ النَّدم على الخطايا، حيث استُخدِمت المسوح والرَّماد في العهد القديم كرمز للدَّلالة على الذُّلِّ وقت الكوارث، والحُزن على فقدان الأحبَّاء، والتَّوبة القلبيَّة عن الخطايا (أستير 4: 3؛ يونان 3: 5-7؛ إشعياء 37: 1؛ دانيال 9: 3؛ رؤيا 11: 3). لذلك، نقرأ عن فرح داود بغفران الله استجابةً لتوبته الصَّادقة: "حلَلْتَ مِسْحي ومَنطَقتني فَرِحًا" (مزمور 30: 11). 

وهكذا يبدأ ذلك الأسبوع بأحد الشَّعانين، ذكرى دخول المسيح أورشليم في موكبٍ عظيمٍ، ذلك بعد إقامته لعازر في بيت عنيا، ما أثَّر على حضور الجماهير بحماسةٍ حالَ سماعها عن تلك المُعجزة. ثمَّ يوم الاثنين حيث حدث تطهير الهيكل من الباعة واللصوص، المُستَغِلِّين والمُستَغَلِّين. والثُّلاثاء حيث الجدل الذي أثاره الكتبة والفرِّيسيُّون حول سُلطة يسوع فيما عمله في الهيكل. ثمَّ يوم الأربعاء الذي قضاه في بيت عنيا حين جاءت مريم أخت لعازر وسكَبَت على رأسه الطِّيب. أمَّا يوم الخميس فهو خميس العهد، الذي مارس فيه المسيح مع تلاميذه أوَّل مُمارسة للعشاء الرَّباني. ثمَّ الجمعة العظيمة حيث قدَّم نفسه على الصَّليب ذبيحة كفَّاريَّة. ثمَّ سبت الصَّمت والانتظار. أمَّا ذروة ذلك الأسبوع في أحد القيامة الذي قام فيه المسيح منتصرًا على الموت لتحتفل به الكنيسة أسبوعيًّا في كلِّ أجيالها.

يأتي (سبت لعازر) غدًا كتمهيدٍ أساس لذكريات ذلك الأسبوع المليء بالأحداث المُقدَّسة، التي يجِب أن نتذكَّرها، ليس على أساس مُمارسات روتينيَّة/طقسيَّة، بل أن ندرسها ونتأمَّلها بعُمقٍ، حتّى يكون فينا فِكر المسيح.

ق. أمير اسحق

ما هو رد فعلك؟

like

dislike

love

funny

angry

sad

wow